فصل: فَصْلٌ: شَرَائِطُ الرُّكْنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: شَرَائِطُ الرُّكْنِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ، وَهُمَا رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الرِّبْحِ.
(أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ وَهُمَا رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ، فَأَهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ وَالْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا مَعْنَى التَّوْكِيلِ، وَقَدْ ذَكَرَ شَرَائِطَ أَهْلِيَّةِ التَّوْكِيلِ وَالْوَكَالَةِ، فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ إسْلَامُهُمَا فَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بَيْن أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ حَتَّى لَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ، فَدَفَعَ مَالَهُ إلَى مُسْلِمٍ مُضَارَبَةً، أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مُسْلِمٌ مَالَهُ مُضَارَبَةً فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِي دَارِنَا بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ، وَالْمُضَارَبَةُ مَعَ الذِّمِّيِّ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ، فَكَذَلِكَ مَعَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ، فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُسْلِمُ فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَعَمِلَ بِالْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ رَبِّ الْمَالِ فَلَمْ يُوجَدْ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ.
وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْحَرْبِيَّ، فَرَجَعَ إلَى دَارِهِ الْحَرْبِيُّ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّ الْمَالِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا إنْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهِدًا أَوْ بِأَمَانٍ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْمُضَارَبَةُ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ أَمَانُهُ وَعَادَ إلَى حُكْمِ الْحَرْبِ كَمَا كَانَ، فَبَطَلَ أَمْرُ رَبِّ الْمَالِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ فَقَدْ تَعَدَّى بِالتَّصَرُّفِ فَمَلَكَ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ صَارَ كَأَنَّ رَبَّ الْمَالِ دَخَلَ مَعَهُ.
وَلَوْ دَخَلَ رَبُّ الْمَالِ مَعَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَمْ تَبْطُلْ الْمُضَارَبَةُ، فَكَذَا إذَا دَخَلَ بِأَمْرِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدُّخُولِ انْقَطَعَ حُكْمُ رَبِّ الْمَالِ عَنْهُ، فَصَارَ تَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ فَمَلَكَ الْأَمْرَ بِهِ وَقَدْ قَالُوا فِي الْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَدَفَعَ إلَيْهِ حَرْبِيٌّ مَالًا مُضَارَبَةً مِائَةَ دِرْهَمٍ، أَنَّهُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ جَائِزٌ، فَإِنْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَلَى هَذَا وَرَبِحَ أَوْ وُضِعَ فَالْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَ، وَيَسْتَوْفِي الْمُضَارِبُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ إلَّا مِائَةً فَهِيَ كُلُّهَا لِلْمُضَارِبِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ فَذَلِكَ لِلْمُضَارِبِ أَيْضًا، وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمْ يَشْتَرِطْ الْمِائَةَ إلَّا مِنْ الرِّبْحِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَهَذَا فَرَّعَ اخْتِلَافَهُمْ فِي جَوَازِ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِمَا عُلِمَ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ فَأَنْوَاعٌ:
(مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ فَلَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّ رِبْحَ مَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ رِبْحٌ مَا لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ تَتَعَيَّنُ عِنْدَ الشِّرَاءِ بِهَا، وَالْمُعَيَّنُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَالرِّبْحُ عَلَيْهَا يَكُونُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ.
«وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ»، وَمَا لَا يُتَعَيَّنُ يَكُونُ مَضْمُونًا عِنْدَ الشِّرَاءِ بِهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ الْعَيْنُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَعَلَى الْمُشْتَرِي بِهِ ضَمَانُهُ، فَكَانَ الرِّبْحُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ فَيَكُونُ رِبْحَ الْمَضْمُونِ، وَلِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْعُرُوضِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعُرُوضِ تُعْرَفُ بِالْحِرْزِ وَالظَّنِّ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ، وَالْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَالْمُنَازَعَةُ تُفْضِي إلَى الْفَسَادِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَقَدْ قَالُوا: إنَّهُ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عُرُوضًا، فَقَالَ لَهُ: بِعْهَا وَاعْمَلْ بِثَمَنِهَا مُضَارَبَةً فَبَاعَهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَتَصَرَّفَ فِيهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْ الْمُضَارَبَةَ إلَى الْعُرُوضِ وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إلَى الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ تَصِحُّ بِهِ الْمُضَارَبَةُ، فَإِنْ بَاعَهَا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا، أَنَّهُ يَبِيعُ بِالْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا، إلَّا أَنَّ الْمُضَارَبَةَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُضَافَةً إلَى مَا لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِهِ، وَهُوَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ.
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَالْبَيْعُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِغَيْرِ الْأَثْمَانِ، وَلَا تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مُضَافَةً إلَى مَا لَا يَصْلُحُ بِهِ رَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ.
(وَأَمَّا) تِبْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَقَدْ جَعَلَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ، وَجَعَلَهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَالْأَمْرُ فِيهِ مَوْكُولٌ إلَى التَّعَامُلِ، فَإِنْ كَانَ النَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَهُوَ كَالْعُرُوضِ فَلَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ.
(وَأَمَّا) الزُّيُوفُ وَالنَّبَهْرَجَةِ فَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهَا، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ كَالْجِيَادِ.
(وَأَمَّا) السَّتُّوقَةُ فَإِنْ كَانَتْ لَا تُرَوَّجُ فَهِيَ كَالْعُرُوضِ، وَإِنْ كَانَتْ تُرَوَّجُ فَهِيَ كَالْفُلُوسِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الدَّرَاهِمِ التِّجَارِيَّةِ لَا يَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا كَسَدَتْ عِنْدَهُمْ وَصَارَتْ سِلْعَةً.
قَالَ: وَلَوْ أَجَزْتُ الْمُضَارَبَةَ بِهَا، أَجَزْتُهَا بِمَكَّةَ بِالطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَبَايَعُونَ بِالْحِنْطَةِ كَمَا يَتَبَايَعُ غَيْرُهُمْ بِالْفُلُوسِ.
(وَأَمَّا) الْفُلُوسُ فَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِيهَا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِهَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُضَارَبَةِ الْكَبِيرَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ: لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ إلَّا بِالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهَا تَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفُلُوسَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَهُ، فَكَانَتْ أَثْمَانًا كَالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ تَتَعَيَّنُ، فَكَانَتْ كَالْعُرُوضِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ رَأْسِ الْمَالِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ، وَكَوْنُ الرِّبْحِ مَعْلُومًا شَرْطَ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا لَا دَيْنًا، فَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ، فَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِدَيْنِي الَّذِي فِي ذِمَّتِكَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، إنَّ الْمُضَارَبَةَ فَاسِدَةٌ بِلَا خِلَافٍ فَإِنْ اشْتَرَى هَذَا الْمُضَارِبُ وَبَاعَ، لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ، وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ بِحَالٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا مَا اشْتَرَى وَبَاعَ لِرَبِّ الْمَالِ، لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضَيْعَتُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ وَكَّلَ رَجُلًا يَشْتَرِي لَهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى لَا يَبْرَأُ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَهُ.
وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْأَمْرُ بِالشِّرَاءِ بِمَا فِي الذِّمَّةِ لَمْ تَصِحَّ إضَافَةُ الْمُضَارَبَةِ إلَى مَا فِي الذِّمَّةِ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ، وَلَكِنْ لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ فَتَصِيرُ الْمُضَارَبَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مُضَارَبَةً بِالْعُرُوضِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ الْعُرُوضِ، ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً فَتَصِيرُ مُضَارَبَةً بِالْعُرُوضِ فَلَا تَصِحُّ.
وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: اقْبِضْ مَالِي عَلَى فُلَانٍ مِنْ الدَّيْنِ وَاعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً جَازَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ هُنَا أُضِيفَتْ إلَى الْمَقْبُوضِ، فَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا لَا دَيْنًا.
وَلَوْ أَضَافَ الْمُضَارَبَةَ إلَى عَيْنٍ هِيَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ مِنْ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، بِأَنْ قَالَ لِلْمُودَعِ أَوْ الْمُسْتَبْضَعِ: اعْمَلْ بِمَا فِي يَدكَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ جَازَ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ أَضَافَهَا إلَى مَضْمُونَةٍ فِي يَدِهِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْصُوبَةِ، فَقَالَ لِلْغَاصِبِ: اعْمَلْ بِمَا فِي يَدِكِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، وَالْمَغْصُوبُ مَغْصُوبٌ فِي يَدِهِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّصَرُّفُ لِلْمُضَارَبَةِ، فَلَا يَصِحُّ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مَضْمُونٌ إلَى أَنْ يَأْخُذَ فِي الْعَمَلِ، فَإِذَا أَخَذَ فِي الْعَمَلِ وَهُوَ الشِّرَاءُ تَصِيرُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ فَتَصِحُّ وَسَوَاءٌ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مَفْرُوزًا أَوْ مُشَاعًا، بِأَنْ دَفَعَ مَالًا إلَى رَجُلٍ، بَعْضُهُ مُضَارَبَةً وَبَعْضُهُ غَيْرِ مُضَارَبَةٍ مُشَاعًا فِي الْمَالِ، فَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِشَاعَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُشَاعِ، وَكَذَا الشَّرِكَةُ لَا تَمْنَعُ الْمُضَارَبَةَ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ إذَا رَبِحَ يَصِيرُ شَرِيكًا فِي الْمَالِ، وَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَإِذَا لَمْ يُمْنَعْ الْبَقَاءُ لَا يُمْنَعُ الِابْتِدَاءُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: نِصْفُهَا عَلَيْكَ قَرْضٌ، وَنِصْفُهَا مُضَارَبَةٌ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ.
أَمَّا جَوَازُ الْمُضَارَبَةِ فَلِمَا قُلْنَا.
وَأَمَّا جَوَازُ الْقَرْضِ فِي الْمُشَاعِ وَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ تَبَرُّعًا وَالشِّيَاعُ يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّبَرُّعِ كَالْهِبَةِ فَلِأَنَّ الْقَرْضَ لَيْسَ بِتَبَرُّعٍ مُطْلَقٍ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ تَبَرُّعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ لِلْحَالِ، فَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِعِوَضٍ فِي الثَّانِي.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ رَدُّ الْمِثْلِ لَا رَدُّ الْعَيْنِ؟ فَلَمْ يَكُنْ تَبَرُّعًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الشُّيُوعُ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّهَا تَبَرُّعٌ مَحْضٌ فَعَمِلَ الشُّيُوعُ فِيهَا، وَإِذَا جَازَ الْقَرْضُ وَالْمُضَارَبَةُ كَانَ نِصْفُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ مَلَكَهُ وَهُوَ الْقَرْضُ، وَوَضِيعَتُهُ عَلَيْهِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ مُسْتَفَادٌ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَوَضِيعَتُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ أَحَدِهِمَا دُونَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِقِسْمَتِهِ.
قَالُوا: وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُ: خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ عَلَى أَنَّ نِصْفَهَا قَرْضٌ عَلَيْكَ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ لِي فَهَذَا مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةً فِي مُقَابَلَةِ الْقَرْضِ، وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا» فَإِنْ عَمِلَ عَلَى هَذَا فَرَبِحَ أَوْ وُضِعَ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَكَذَا الْوَضِيعَةُ.
(أَمَّا) الرِّبْحُ فَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ مَلَكَ نِصْفَ الْمَالِ بِالْقَرْضِ، فَكَانَ نِصْفُ الرِّبْحِ لَهُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بِضَاعَةً فِي يَدِهِ، فَكَانَ رِبْحُهُ لِرَبِّ الْمَالِ.
(وَأَمَّا) الْوَضِيعَةُ فَلِأَنَّهَا جُزْءٌ هَالِكٌ مِنْ الْمَالِ، وَالْمَالُ مُشْتَرَكٌ، فَكَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِهِ وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ عَلَى أَنَّ نِصْفَهَا مُضَارَبَةٌ بِالنِّصْفِ وَنِصْفَهَا هِبَةٌ فَقَبَضَهَا الْمُضَارِبُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَ مَقْسُومٍ، فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، فَإِنْ عَمِلَ فِي الْمَالِ فَرَبِحَ، كَانَ نِصْفُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ حِصَّةَ الْهِبَةِ، وَنِصْفُ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا، أَمَّا نِصْفُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ حِصَّةُ الْهِبَةِ، فَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لَهُ فِيهِ إذَا قَبَضَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَكَانَ رِبْحُهُ لَهُ.
وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَإِنَّمَا يَكُونُ رِبْحُهُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُفِيدَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ مُضَارَبَةً صَحِيحَةً.
(وَأَمَّا) كَوْنُ الْوَضِيعَةِ عَلَيْهِمَا، فَلِأَنَّهَا جُزْءٌ هَالِكٌ مِنْ الْمَالِ، وَالْمَالُ مُشْتَرَكٌ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ أَوْ بَعْدَ مَا عَمِلَ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ الْمَالِ وَهُوَ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ.
وَلَوْ كَانَ دَفَعَ نِصْفَ الْمَالِ بِضَاعَةً وَنِصْفَهُ مُضَارَبَةً، فَقَبَضَهُ الْمُضَارِبُ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْمَالُ عَلَى مَا سَمَّيَا مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَالْبِضَاعَةُ وَالْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَنِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ وَنِصْفُهُ عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّ الْإِشَاعَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْمَالِ مُضَارَبَةً وَبِضَاعَةً، وَجَازَتْ الْمُضَارَبَةُ وَالْبِضَاعَةُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُبْضِعِ وَالْمُضَارِبِ فِي الْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةُ وَحِصَّةُ الْبِضَاعَةِ مِنْ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمُبْضِعَ لَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ، وَحِصَّةُ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَالْمُضَارَبَةُ قَدْ صَحَّتْ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ.
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَلَى أَنَّ نِصْفَهَا وَدِيعَةٌ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَنِصْفُهَا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَالْمَالُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ عَلَى مَا سَمَّيَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْنِي الْوَدِيعَةَ وَالْمُضَارَبَةَ أَمَانَةٌ، فَلَا يَتَنَافَيَانِ، فَكَانَ نِصْفُ الْمَالِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَدِيعَةً، وَنِصْفُهُ مُضَارَبَةً إلَّا أَنَّ التَّصَرُّفَ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ بَعْضُهُ مُضَارَبَةٌ وَبَعْضُهُ وَدِيعَةٌ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الْوَدِيعَةِ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ قَسَمَ الْمُضَارِبُ الْمَالَ نِصْفَيْنِ ثُمَّ عَمِلَ بِأَحَدِ النِّصْفَيْنِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَرَبِحَ أَوْ وُضِعَ فَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ نِصْفَانِ، وَنِصْفُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ وَنِصْفُهُ عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمُضَارِبِ الْمَالَ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهَا، فَإِذَا أُفْرِزَ بَعْضُهُ فَقَدْ تَصَرَّفَ فِي مَالِ الْوَدِيعَةِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَمَا كَانَ فِي حِصَّةِ الْوَدِيعَةِ فَهُوَ غَصْبٌ فَيَكُونُ رِبْحُهُ لِلْغَاصِبِ، وَمَا كَانَ فِي حِصَّةِ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ عَلَى الشَّرْطِ.
وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَا إذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَتَاعًا، فَبَاعَ نِصْفَهُ مِنْ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ النِّصْفَ الْبَاقِي وَيَعْمَلَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ مُضَارَبَةً، عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، فَبَاعَ الْمُضَارِبُ نِصْفَ الْمَتَاعِ بِخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ عَمِلَ بِهَا وَبِالْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي عَلَيْهِ، فَرَبِحَ فِي ذَلِكَ أَوْ وُضِعَ فَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ شَيْئًا لَا يَصِحُّ، وَالْمُشْتَرَى يَكُونُ لِلْمَأْمُورِ لَا لِلْآمِرِ، وَيَكُونُ الدَّيْنُ عَلَى الْمَأْمُورِ حَالَّةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهاَهُنَا أَمْرٌ أَنْ يَعْمَلَ بِالدَّيْنِ وَبِنِصْفِ ثَمَنِ الْمُبَاعِ، فَمَا رَبِحَ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ فَهُوَ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ رِبْحُهُ لَهُ، وَمَا رَبِحَ فِي نَصِيبِ الدَّافِعِ فَهُوَ لِلدَّافِعِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَالَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَ الْهَالِكُ بَيْنَهُمَا.
(وَأَمَّا) فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَمِقْدَارُ مَا رَبِحَ فِي الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ نِصْفَ الْمَتَاعِ بِهَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى مَا شَرَطَا، وَمَا رَبِحَ فِي النِّصْفِ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ يَصِحُّ، وَتَكُونُ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةً؛ لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَى صَارَ عُرُوضًا، وَالْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ لَا تَصِحُّ، فَصَارَتْ الْمُضَارَبَةُ هُنَا جَائِزَةً فِي النِّصْفِ فَاسِدَةً فِي النِّصْفِ، فَالرِّبْحُ فِي الصَّحِيحَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَفِي الْفَاسِدَةِ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ وَلَوْ شَرَطَ الدَّافِعُ لِنَفْسِهِ الثُّلُثَ وَلِلْمُضَارِبِ الثُّلُثَيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: ثُلُثَا الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، نِصْفُ الرِّبْحِ مِنْ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ خَاصَّةً، وَالسُّدُسُ مِنْ نَصِيبِ الدَّافِعِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِي نَصِيبِكَ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ لَكَ، وَاعْمَلْ فِي نَصِيبِي عَلَى أَنَّ لَكَ ثُلُثَ الرِّبْحِ مِنْ نَصِيبِي.
(وَأَمَّا) عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا فَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ نِصْفَهُ مُضَارَبَةً جَائِزَةً، وَنِصْفَهُ مُضَارَبَةً فَاسِدَةً، فَمَا رَبِحَ فِي النِّصْفِ الَّذِي كَانَ دَيْنًا فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ، وَمَا رَبِحَ فِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ ثَمَنُ الْمَتَاعِ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا، فَصَارَ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَا الرِّبْحِ، وَلِلْمُضَارِبِ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَانَ شَرَطَ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ، وَلِلْمُضَارِبِ الثُّلُثُ، فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ شَرَطَ النِّصْفَ مِنْ نَصِيبِ نَفْسِهِ، وَالزِّيَادَةَ مِنْ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَشَرْطُ الزِّيَادَةِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ وَلَا رَأْسِ مَالٍ بَاطِلٌ، فَيَكُونُ الرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ وَفِي قِيَاسِ قَوْلِهِمَا: نِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ فِيهِ فَاسِدَةٌ، وَلِلْمُضَارِبِ ثُلُثُ رِبْحِ النِّصْفِ الْآخَرِ.
(وَمِنْهَا) تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ إلَى الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ، وَهُوَ التَّخْلِيَةُ كَالْوَدِيعَةِ، وَلَا يَصِحُّ مَعَ بَقَاءِ يَدِ الدَّافِعِ عَلَى الْمَالِ؛ لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ مَعَ بَقَاءِ يَدِهِ، حَتَّى لَوْ شَرَطَ بَقَاءَ يَدِ الْمَالِكِ عَلَى الْمَالِ فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ، لِمَا قُلْنَا فَرِّقْ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الشَّرِكَةِ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ مَعَ بَقَاءِ يَدِ رَبِّ الْمَالِ عَلَى مَالِهِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ انْعَقَدَتْ عَلَى رَأْسِ مَالٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَعَلَى الْعَمَلِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَمَلُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَالِ، فَكَانَ هَذَا شَرْطًا مُوَافِقًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهَا انْعَقَدَتْ عَلَى الْعَمَلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَشَرْطُ زَوَالِ يَدِ رَبِّ الْمَالِ عَنْ الْعَمَلِ يُنَاقِضُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ.
وَكَذَا لَوْ شَرَطَ فِي الْمُضَارَبَةِ عَمَلَ رَبِّ الْمَالِ، فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ سَوَاءٌ عَمِلَ رَبُّ الْمَالِ مَعَهُ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ عَمَلِهِ مَعَهُ شَرْطُ بَقَاءِ يَدِهِ عَلَى الْمَالِ، وَإِنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ.
وَلَوْ سَلَّمَ رَأْسَ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَمَلَهُ، ثُمَّ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى الْعَمَلِ أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ بِضَاعَةً جَازَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ لَا تُوجِبُ خُرُوجَ الْمَالِ عَنْ يَدِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالِكُ عَاقِدًا أَوْ غَيْرَ عَاقِدٍ لابد مِنْ زَوَالِ يَدِ رَبِّ الْمَالِ عَنْ مَالِهِ؛ لِتَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ، حَتَّى إنَّ الْأَبَ أَوْ الْوَصِيَّ إذَا دَفَعَ مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً، وَشَرَطَ عَمَلَ الصَّغِيرِ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ يَدَ الصَّغِيرِ بَاقِيَةٌ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ فَتَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، وَكَذَلِكَ أَحَدُ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ، أَوْ الْعِنَانِ إذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً، وَشَرَطَ عَمَلَ شَرِيكِهِ مَعَ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ لِشَرِيكِهِ فِيهِ مِلْكًا فَيُمْنَعُ التَّسْلِيمُ.
(فَأَمَّا) الْعَاقِدُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْمَالِ فَشَرَطَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَالِ مَعَ الْمُضَارِبِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ الْمَالِكِ مُضَارَبَةً لَمْ تَفْسُدْ الْمُضَارَبَةُ، كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ إذَا دَفَعَا مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً، وَشَرَطَا أَنْ يَعْمَلَا مَعَ الْمُضَارِبِ بِجُزْءٍ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ أَخَذَا مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً بِأَنْفُسِهِمَا جَازَ، فَكَذَا إذَا شَرَطَا عَمَلَهُمَا مَعَ الْمُضَارِبِ وَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْعَاقِدُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ الْمَالِكِ مُضَارَبَةً، فَشَرَطَ عَمَلَهُ، فَسَدَ الْعَقْدُ، كَالْمَأْذُونِ إذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً وَشَرَطَ عَمَلَهُ مَعَ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا رَقَبَةَ الْمَالِ فَيَدُ التَّصَرُّفِ ثَابِتَةٌ لَهُ عَلَيْهِ، فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التَّصَرُّفِ، فَكَانَ قِيَامُ يَدِهِ مَانِعًا مِنْ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ، فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْمُضَارَبَةِ، وَإِنْ شَرَطَ الْمَأْذُونُ عَمَلَ مَوْلَاهُ مَعَ الْمُضَارِبِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الْمَالِكُ لِلْمَالِ حَقِيقَةً، فَإِذَا حَصَلَ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَقَدْ وَجَدَ يَدَ الْمَالِكِ فَيَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ هَذَا الْمَالِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ.
(وَأَمَّا) الْمُكَاتَبُ إذَا شَرَطَ عَمَلَ مَوْلَاهُ لَمْ تَفْسُدْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ إكْسَابَ مُكَاتَبِهِ، وَهُوَ فِيهَا كَالْأَجْنَبِيِّ.
وَلَوْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ مَالًا مُضَارَبَةً وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ، وَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَعْمَلَ الْمُضَارِبُ مَعَهُ أَوْ يَعْمَلَ مَعَهُ رَبُّ الْمَالِ، فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لِلْمُضَارِبِ وَالْمِلْكَ لِلْمَوْلَى، وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ التَّسْلِيمِ، وَقَدْ قَالُوا فِي الْمُضَارِبِ: إذَا دَفَعَ الْمَالَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ فَالْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ فَاسِدَةٌ، وَالْمُضَارَبَةُ الْأُولَى عَلَى حَالِهَا جَائِزَةٌ، وَالرِّبْحُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ عَلَى مَا شَرَطَا فِي الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى، وَلَا أَجْرَ لِرَبِّ الْمَالِ.
(وَأَمَّا) فَسَادُ الْمُضَارَبَةِ الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّ يَدَ رَبِّ الْمَالِ يَدُ مِلْكٍ، وَيَدُ الْمِلْكِ مَعَ يَدِ الْمُضَارِبِ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ، وَبَقِيَتْ الْمُضَارَبَةُ الْأُولَى عَلَى حَالِهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيُّ خِلَافًا، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَنْفَسِخُ الْمُضَارَبَةُ الْأُولَى بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ زَوَالَ يَدِ رَبِّ الْمَالِ شَرْطُ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ، فَكَانَتْ إعَادَةُ يَدِهِ إلَيْهِ مُفْسِدَةً لَهَا.
(وَلَنَا) أَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَصِيرُ مُعِينًا لِلْمُضَارِبِ، وَالْإِعَانَةُ لَا تُوجِبُ إخْرَاجَ الْمَالِ عَنْ يَدِهِ، فَيَبْقَى الْعَقْدُ الْأَوَّلُ، وَلَا أَجْرَ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الرِّبْحِ فَأَنْوَاعٌ:
(مِنْهَا) إعْلَامُ مِقْدَارِ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الرِّبْحُ، وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَنْ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الرِّبْحِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الرِّبْحِ جَازَ ذَلِكَ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ: فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ شِرْكًا فِي الرِّبْحِ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّرِكَةَ هِيَ النَّصِيبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} أَيْ نَصِيبٌ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} أَيْ نَصِيبٍ فَقَدْ جَعَلَ لَهُ نَصِيبًا مِنْ الرِّبْحِ، وَالنَّصِيبُ مَجْهُولٌ فَصَارَ الرِّبْحُ مَجْهُولًا.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشِّرْكَ بِمَعْنَى الشَّرِكَةِ، يُقَالُ: شَرَكْتُهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَشْرَكُهُ شِرْكَةً وَشِرْكًا قَالَ الْقَائِلُ: وَشَارَكْنَا قُرَيْشًا فِي بَقَاهَا وَفِي أَحْسَابِهَا شِرْكَ الْعِنَانِ وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى النَّصِيبِ أَيْضًا، لَكِنْ فِي الْحَمْلِ عَلَى الشَّرِكَةِ تَصْحِيحٌ لِلْعَقْدِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ جُزْءًا شَائِعًا، نِصْفًا أَوْ ثُلُثًا أَوْ رُبْعًا، فَإِنْ شَرَطَا عَدَدًا مُقَدَّرًا بِأَنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ وَالْبَاقِي لِلْآخَرِ لَا يَجُوزُ، وَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ نَوْعٌ مِنْ الشَّرِكَةِ، وَهِيَ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ، وَهَذَا شَرْطٌ يُوجِبُ قَطْعَ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ؛ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَرْبَحَ الْمُضَارِبُ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَلَا تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ، فَلَا يَكُونُ التَّصَرُّفُ مُضَارَبَةً، وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا النِّصْفُ أَوْ الثُّلُثُ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالَا: إلَّا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطٌ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا النِّصْفَ وَمِائَةً، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مِائَتَيْنِ، فَيَكُونَ كُلُّ الرِّبْحِ لِلْمَشْرُوطِ لَهُ، وَإِذَا شَرَطَا لَهُ النِّصْفَ إلَّا مِائَةً، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الرِّبْحِ مِائَةً، فَلَا يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ.
وَلَوْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ أَنْ تَكُونَ الْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا بَطَلَ الشَّرْطُ، وَالْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةٌ وَالْأَصْلُ فِي الشَّرْطِ الْفَاسِدِ إذَا دَخَلَ فِي هَذَا الْعَقْدِ أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ وَشَرْطُ الْوَضِيعَةِ عَلَيْهِمَا شَرْطٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْوَضِيعَةَ جُزْءٌ هَالِكٌ مِنْ الْمَالِ، فَلَا يَكُونُ إلَّا عَلَى رَبِّ الْمَالِ، لَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبْضِ، فَلَا يُفْسِدُهُ الشَّرْطُ الزَّائِدُ الَّذِي لَا يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ، وَلِأَنَّهَا وَكَالَةٌ وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ لَا يَعْمَلُ فِي الْوَكَالَةِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُضَارَبَةِ إذَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ: لَكَ ثُلُثُ الرِّبْحِ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَا عَمِلْتَ فِي الْمُضَارَبَةِ صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ مِنْ الثُّلُثِ، وَبَطَلَ الشَّرْطُ.
وَذَكَرَ فِي الْمُزَارَعَةِ: إذَا دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضَهُ بِثُلُثِ الْخَارِجِ، وَجَعَلَ لَهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ شَهْرٍ، فَالْمُزَارَعَةُ بَاطِلَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، رِوَايَةُ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ تَقْتَضِي فَسَادَ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لِلْمُضَارِبِ مِنْ الْمُشَاهَرَةِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَطَعَ عَنْهُ الشَّرِكَةَ، وَهَذَا يُفْسِدُ الْمُضَارَبَةَ، وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى رِبْحٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ أَلْحَقَ بِهِ شَرْطًا فَاسِدًا، فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِجَارَةِ فِي الْمُزَارَعَةِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْمُضَارَبَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَالْمُضَارَبَةُ لَا تَفْتَقِرُ صِحَّتُهَا إلَى ذِكْرِ الْمُدَّةِ، فَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ جَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الْمُزَارَعَةِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمُضَارَبَةِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ، قَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ دَفَعَ أَلْفًا مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ أَرْضَهُ لِيَزْرَعَهَا سَنَةً أَوْ دَارًا لِيَسْكُنَهَا سَنَةً، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَلْحَقَ بِهَا شَرْطًا فَاسِدًا لَا تَقْتَضِيه، فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الَّذِي شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ أَرْضَهُ لِيَزْرَعَهَا رَبُّ الْمَالِ سَنَةً، أَوْ يَدْفَعَ دَارِهِ إلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِيَسْكُنَهَا سَنَةً، فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نِصْفَ الرِّبْحِ عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ وَعَنْ أُجْرَةِ الدَّارِ وَالْأَرْضِ، فَصَارَتْ حِصَّةُ الْعَمَلِ مَجْهُولَةً بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ مَالًا إلَى رَجُلٍ مُضَارَبَةً، عَلَى أَنْ يَبِيعَ فِي دَارِ رَبِّ الْمَالِ أَوْ عَلَى أَنْ يَبِيعَ فِي دَارِ الْمُضَارِبِ، كَانَ جَائِزًا وَلَوْ شَرَطَا أَنْ يَسْكُنَ الْمُضَارِبُ دَارَ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ رَبُّ الْمَالِ دَارَ الْمُضَارِبِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ الْبَيْعَ فِي أَحَدِ الدَّارَيْنِ فَإِنَّمَا خُصَّ الْبَيْعُ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان، وَلَمْ يُعْقَدْ عَلَى مَنَافِعِ الدَّارِ، وَإِذَا شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ السُّكْنَى فَقَدْ جَعَلَ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ أُجْرَةً لَهُ وَأَطْلَقَ أَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الشَّرْطُ أَوْ لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ.
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ فِي الشَّرْطِ لَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ فَهُوَ قَرْضٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هِيَ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ، وَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِ مَا إذَا عَمِلَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدُ شَرِكَةٍ فِي الرِّبْحِ، فَشَرْطُ قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِيهَا يَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا.
(وَلَنَا) أَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهَا مُضَارَبَةً تُصَحَّحُ قَرْضًا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْقَرْضِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا، وَعَلَى هَذَا إذَا شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ، فَهُوَ إبْضَاعٌ عِنْدَنَا؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِبْضَاعِ.